كل المصائب يؤجر عليها الإنسان إلا مصيبة الحسد، فصاحبها في عذاب دائم وفي ألم مستمر وفي حزن متواصل بلا أجر ولا مثوبة، الحاسد ظالم في ثوب مظلوم؛ ينتقم من نفسه بنفسه ويقتص لأعدائه من لحمه ودمه، يضيق ذرعاً بالناجحين، ويتبرم باللامعين، لا يريد أن يُمدح أحد، ولا أن يفوز أحد، ولا أن يبرز أحد، يريد أن ينجح هو وحده، راحته أن يخفق الناس، وأن يخسروا، وأن يمرضوا وأن يتألموا، إذا أخبرته بالإنجازات والتفوق غضب منك وكذّب الخبر، وإذا بشرته بالمصائب والأحزان قال لسان حاله: بشرك الله بالخير. الحاسد مخاصم لله معترض على القضاء، محارب للمؤمنين، عدو للنعمة. الحاسد مريض لكن لا يُعاد من مرضه، ومصاب لكن لا يُدْعى له، أعوذ بالله ممن لا يريد الخير للناس ولا يحب الفضل للعباد. لو كان بيده الخير لحبسه، ولو كان في تصرفه الرياح لمنع هبوبها، فنعوذ بالله من شر حاسد إذا حسد. واعلم أن صغار النفوس هم الحساد؛ لأَنهم يحسدون على كل شيءٍ عظم عندهم، وإِن كان في نفسه صغيرا؛ ألا تراهم يحسدن أصحاب البيوت الصغيرة وربما يمتلكون الفلل؟ ويحسدون أصحاب السيارات المتواضعة وربما ملكوا ما هو أعظم منها؟ ولكنه صغر النفس وانحطاطها، ونظرها للأسفل الدنيء دوماً.
وذلك بعكس عظماء النفوس فإنهم لا يهتمون لهذه الأمور التافهة من أمور الدنيا، ولا يأبهون بها؛ ألا تراهم يبيتون على الحصير خاوي البطون ولا يسألون الناس إلحافاً، وتحسبهم أغنياء من التعفف؟
فترى سخاء النفس ماثلا عندهم بترفُّعهم عن الحسد، وحبِّ الاستئثار بخصال الحمد، وذلك بأن يحب المرء لإخوانه ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فيفتح لهم المجالات، ويعطيهم فرصة للإبداع، والحديث، والمشاركة، ونحو ذلك؛ فيفرح لنجاحهم، ويحزن لإخفاقهم؛ فهذه من الصور الخفية لسخاء النفس وعلو الهمة، وقلَّ من يتفطَّن لها، ويأخذ نفسه بها. وتجد عنده من جميل السخاءِ سخاءه المرء عما في أيدي الناس، فلا يلتفت إليه، ولا يستشرف له بقلبه، ولا يتعرَّض له بحاله ولسانه.
ومن ترك الحسدَ سلم من أضراره المتنوعة؛ فالحسد داء عضال، وسمٌّ قتَّال، ومسلكٌ شائنٌ، وخلقٌ لئيم، ومن لؤم الحسد أنه موكل
بالأدنى فالأدنى من الأقارب، والأكفاء، والخلطاء، والمعارف، والإخوان.
قال بعض الحكماء: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحسود، نَفسٌ دائمٌ، وهمٌّ لازمٌ، وقلبٌ هائمٌ.
كما أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب؛ لأن الغالب أن الحاسد يعتدي على المحسود بذكر ما يكره وتنفير الناس عنه، والحطّ من قدره وما أشبه ذلك، وهذا من كبائر الذنوب التي قد تطيح بالحسنات. والأنكى من ذلك ما يقع في قلب الحاسد من الحسرة والجحيم والنار التي تأكله أكلا، فكلما رأى نعمة من الله على هذا المحسود اغتم وضاق صدره؛ وصار يراقب هذا الشخص كلما أنعم الله عليه بنعمة حزن واغتم وضاقت به الدنيا بما رحبت فكأنما يصّعّد في السماء.
أعيذك بالله ـ أخي المسلم ـ من الحسد؛ لأن الحاسد لا تعلو به رتبة، ولا يهدأ له بال؛ فهو دنيء مهين النفس، ولأنه بحسده اشتغل بما لا يعنيه، فأضاع ما يعنيه، وما يعود عليه بالخير والنفع، فتراه يزري بفلان، وينتقص فلانا؛ محاولا بذلك تهديم أقدارهم، والنهوض على أكتافهم، وغاب عنه أن الرافع الخافض هو الله ـ عـــز وجـــل
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم