لقاء بعد طول فراق
جندي أردني ينقذ فتاة فلسطينية بعد أن فاجأتهم طائرات عسكرية إسرائيلية بالقصف أثناء حرب حزيران عام 1967، وبعد أربعة وثلاثون عاما انتهيت قصتها بعناق ذويها.
- لم يكن أفراد عائلة رأفت المحتسب يعلمون ما يخفيه لهم القدر وهم يفرون من قدر إلى قدر آخر أثناء حرب حزيران عام 1967 فارين من الحرب الدائرة في مدينة القدس حيث يقطنون هناك إلى منطقة السلط غربي الأردن ، وقد التقت الأسرة المكونة من الأب والأم وخمسة من الأولاد والبنات أصغرهم "نهيل" ثلاثة أشهر بقافلة عسكرية أردنية في منطقة الأغوار حيث التحقت الأسرة بالقافلة رغبة في الوصول حيث تريد ، وفي الطريق حدث ما لم يكن متوقعا ·
فقدت الطفلة
نبيل المحتسب (41 عاما) أحد أبناء الأسرة يروي التفاصيل كما لو وقعت أمام ناظريه منذ لحظات ويقول : "انطلقنا من مدينة القدس قاصدين منطقة السلط وفي الطريق التقت الأسرة على غير موعد مع قافلة عسكرية أردنية كانت مكونة من مجموعة من السيارات العسكرية والشاحنات التي كان بعضها محملا بالذخائر ، فركبنا في إحدى الشاحنات المحملة بالذخيرة ، وفي منطقة وادي شعيب قام والدي ووالدتي بنقلنا من الشاحنة إلى سيارة جيب "لاند روفر" صغيرة وما أن انتهينا صعدت والدتي في مؤخرة السيارة التي كانت تقل جنديان في المقدمة وجنديان في المؤخرة ، وأعطت شقيقتي نهيل لأحد الجنديين الذين كانا في المؤخرة من باب المساعدة في حمايتنا ، وفي لحظة مدت يدها لالتقاط أحد أشقائي من أبي وفي هذه اللحظة بالضبط فاجأتنا طائرات عسكرية إسرائيلية بقصف مقدمة السيارة التي كانت تقلنا وجميع السيارات التي كانت في القافلة بمختلف القنابل وقنابل النابالم الحارقة ، حتى تحولت جميعها إلى هياكل من الحديد المتفتت ، فالتقطنا والدي وهرب بنا بعيدا عن القصف ، وبقيت والدتي لا نعلم أين هي ، ولم يعد بالإمكان رؤية شيئ من شدة النيران وكثافة الدخان المتصاعد ، وما أن هدأ القصف قليلا وهدأت شدة النيران حتى شاهدنا والدتي تضع يداها على وججها هائمة شاردة ، وشاءت الأقدار أن تأتي باتجاه اختبائنا ، فسألناها أين نهيل ؟ فقالت : "لا أدري ·· لقد سمعت صرختها ولا أدري إن كانت النيران قد التهمتها أو حولتها الشظايا إلى أشلاء أم بقيت حية ، ولا أدري ما مصير الجندي الذي كان يحملها ، ولا الجنود الذين كانوا في السيارة"، وبعد طول بحث بين هياكل السيارات المحترقة لم نعثر لها على أثر ، ففوضنا أمرنا لله وانطلقنا إلى السلط ، ومكثنا هناك فترة لم ندخر فيها جهدا للبحث عن الطفلة المفقودة ، حتى يئسنا من إمكانية العثور عليها، فعدنا إلى القدس بعد أن انتهت الحرب · سنوات طويلة من البحث
وتابع نبيل : ومنذ ذلك الوقت لم نتوانى لحظة في البحث عنها ، وقد استخدمنا جميع الطرق بما فيها الفتاحين والعرافين ، وكانت أمي دائما تقول بأنها تشعر أن نهيل مازالت على قيد الحياة ، حتى شاءت الأقدار أن نلتقي بأحد أصدقائنا من مدينة الخليل يقال أنه "مكشوف عنه الحجاب" في شهر رمضان المبارك ، وأخبرني أن نهيل مازالت على قيد الحياة وطلب مني التوجه للأردن والبحث عنها مع أنه لا يعرف أي معلومة عن مكان وجودها ، لكنه اعتمد على إحساسه · وأضاف : حينها قررت السفر للأردن والبحث من جديد وكلي أمل وإصرار بالعثور عليها ، لأنني أردت أن أحسم هذه القضية التي آلمتنا أكثر من ثلاثة عقود ، وعزمت أمري وتوكلت على الله ، وبدأت البحث لدى المخابرات العامة الأردنية ، وقيادة الجيش الأردني ، ثم انطلقت إلى أرشيف أحد المستشفيات في السلط أملا في العثور على اسم جندي جريح أوصلناه للمستشفى بعد نجاتنا ، وأملا في معرفة اسم الكتيبة التي كان فيها علنا نصل إلى طرف خيط ، ولكن للأسف كان ارشيف المستشفى مغلقا ، فطلبوا مني الحضور في اليوم التالي ، لكني في الطريق قررت البحث عن رجال كبار في السن لربما أسعفتهم الذاكرة في إرشادي لطرف خيط ·
بصيص النور ينبعث
وتابع نبيل : وفي الطريق وقعت عيني على رجل مسن يجلس في منجرة في منطقة السلط فسردت عليه القصة وسألته إن كان يعلم شيئا عن هذه الحادثة أو الجنود الذين كانوا في القافلة ، فأخبرني أن شخصا اسمه الشيخ أمين زيد الكيلاني كان مسؤولا عن الإغاثة في منطقة السلط إبان الحرب ، طلب مني الذهاب إليه فربما يكون لديه معلومات تدلنا إلى نهيل ، وأعطاني عنوانه ، وعلى الفور انطلقت للشيخ وبدأت في سرد القصة ، وفي منتصف الحديث قاطعني وأكمل القصة عني ، وهنا كانت المفاجأة وأدركت أن الشيخ يعلم مكان وجودها أو على الأقل معلومات عنها ·
وتابع الشيخ يسرد لي القصة قائلا : "آتي جندي عاري القدمين إلى مقهى في وسط السلط وحاله صعبة يحمل طفلة بين يديه ، فألقى الطفلة إلى رجل يدعى صبحي الفاعوري شاء القدر ألا يرقه الله بالولد ، وطلب منه أن يتصرف بهذه الطفلة لأنه ليس لديه أهل في هذه البلد ولن يتمكن من رعايتها ، ولا يدري إن بقي أهلها أحياء أم قتلوا في الغارة ، فأخذها الفاعوري وتوجه للشيخ الكيلاني وحصل لها على حليب من الاغاثة وأخبره قصتها ، فطلب منه الحسيني رعايتها ، بحيث يسلمها إلى أهلها إن كانوا أحياء ، فوافقه الفاعوري ، واحتفظ بالطفلة ورعاها وعلماها حتى حصلت على درجة البكالوريوس في التمريض ، وزوجها من طبيب يدعى ابرهيم الشوبكي" ·
حاولت الإنكار
وأضاف نبيل : وعلى وجه السرعة انطلقنا إلى أقارب الفاعوري واصطحبنا بعضهم لبيته وواجهناه بالقصة ، ولم تكن الصدمة سهلة بالنسبة لهم ، فحاولت زوجته اختلاق حكايات بادعائها أنها ابنة من زوجة زوجها ، وأنهما عثروا عليها في أحد الأودية ، وما إلى ذلك ، وأخرج الفاعوري صورة نهيل من جيبه وقال لنا : "هذه ابنتي تغريد ·· أنا ربيتها وعلمتها وزوجتها" ، وبالصدفة كان معي زوج شقيتي الصغرى فقال : "هذه صورة زوجتي ·· لقد تزوجتها منذ اثنى عشرة عاما" وحاول إخراج صورة من جيبه فلم يجد ، فانطلقنا إلى بيت الشيخ الكيلاني حيث أبقينا شقيقتي الصغرى هناك ، فناديناها ، ولما رآها أحد الحاضرون أقسم أنها شقيقتها لشدة الشبه بينهما ، وهنا شعرنا براحة نفسية وتيقنا أن تغريد هي نهيل ، وبعد مفاوضات مع الفاعوري حذره خلالها أهل الخير من خطورة اختلاط النسب إذا لم تعرف أهلها ، وطمأناه من أنها ستبقى ابنته كما هي ابنتنا ، وستبقى مع زوجها وأولادها حيث يقيموا وافق أن يوصلنا إليها بشرط أن نجري فحص للبصمة الجينية للتأكد من أنها شقيقتي · لقاء بعد طول غياب
وتابع نبيل يقول : عند استضافتها لنا قابلتنا كضيوف وبعد طول مكوث أيقنت أننا أشقاؤها ، فتعانقنا وسط جو امتزج بالدموع ، والفرح ، ثم نادت على أطفالها الخمسة وقالت لهم : "سلموا على أخوالكم" ، وكانت قد أبعدتهم طوال مكوثنا عندها ·
عائشة المحتسب والدة نهيل "تغريد" التي استغرقت ثلاثة أيام من لحظة تلقي الخبر حتى تمكنت من السفر للقاء ابنتها ، لم تستطع أن تتمالك نفسها لحظة اللقاء الأول بعد أربعة وثلاثون عاما من الفراق تقول : "ليس هناك أجمل ولا أحلى من هذا اللقاء ·· انه أجمل ما يمكن أن يشعر به الإنسان ، ليس بالإمكان الوصف" ·
وتضيف : "شعرت بالثلاثة أيام أنها ثلاثون سنة وأنا أترقب لحظة لقائي بها ، اتخيلها كيف أصبحت ، وخلال أربعة وثلاثون عاما لم تغب عني لحظة ، وكان إحساسي مؤكدا بأنها مازالت علي قيد الحياة".
أحبهم جميعا
أما نهيل رأفت المحتسب "تغريد صبحي الفاعوري" ، فتصف مشاعرها بلقاء أهلها : "المشاعر مختلطة ، لا يمكنك التمييز بينها أو وصفها ·· دموع ، وفرح ، وحزن علي آلام أهلي الذين فقدوني خلال هذه المدة ·· أنها مشاعر فوق الوصف" · وأضافت : "أكن لعائلتي كل الحب فوالدي الذان ربياني أكن لهما كل الحب ، ووالدي الذان فقداني كذلك ، ولا أشعر أني منجرفة لأحد التيارين ·· ولا مجال للمفاضلة لأنني في النهاية سأبقى ابنته للعائلتين ، وزوجة وأما في بيتي الخاص".
وبعد ··· ليس لنا إلا أن نبارك للأسرة التئام شملها بعد طول فراق ، وندفع الأمل في عروق الذين فقدوا أبناءهم أو ذويهم وأصبحوا ضحايا للحرب الفلسطينية الإسرائيلية بالبحث عنهم وألا يفقدوا الأمل ، فإرادة الله تتجلي في هذه المواقف